المبادرة الوطنية للتنمية البشرية

الاثنين، 20 مايو 2013

الزريعة" .. كيف حول الفقراء الحبوب إلى تِبْرِ للكرامة

الزريعة" .. كيف حول الفقراء الحبوب إلى تِبْرِ للكرامة



في كل شارع أو درب بالمغرب ينتصب برميل من الألمنيوم فوقه مقلاة كبيرة وبداخله قنينة غاز. إنها العلامة التجارية لـ"مول الزريعة"، كما أنها الدليل القاطع للقادم من مدينة طاطا على أن أحد أبناء بلدته الصغيرة يوجد هناك.

"أودي الله يهديك راه ماشي هو اللول، راه كاين اللي سبقوا للحرفة". هكذا يرد الرجل الخمسيني على صديقه وهو يحتسي كأس الشاي. جددت وفاة الحاج أوطازولت السجال في بيت عزائه بأحد أحياء الدار البيضاء: شكون اختارع حرفة سميتها الزريعة؟ النقاش محتدم لكن الهدوء سرعان ما عاد الى الصالون الذي يجلس به عشرات من باعة الفواكه الجافة، الذين جاؤوا لمواساة عائلة في فقدان رجل يقول عنه الجميع أنه من رواد الحرفة. "واش مانديروش شي بحث علمي فالموضوع، القضية راه كاتستاهل" يرد إبراهيم الحاصل على شهادة الماستر في التاريخ، على زميله "الكَلاي" الذي نقل الجدال الذي شهده مجلس العزاء الى حانوت زريعة بأحد أحياء الرباط. أسئلة البحث عن الأصل تسكن الجميع و"الزريعة" قصة لها بداية.
في البدء كانت "تافوالت"
" ماكانتش سميتها الزريعة فالبدية، كانو والدينا كايسميوها "تافوالت"" يشرح رشيد أوعمي، الذي يبلغ من العمر 42 سنة لهسبريس، تاريخ مهنته. الشاب الذي يمثل الجيل الثالث من أسرته التي تعاقب أفرادها على تسيير واحد من أقدم وأشهر محلات الزريعة بسيدي معروف، يبين أن سبب التسمية يعود الى الفول. "فالربعينات ،كان اللي جا من طاطا كايبيع الطايبوهاري فالكّفيفات". الحاج إيدار "شيخ الحرفة" كما يلقبونه في أوساط "الزريعة" يؤكد نفس الكلام: "جيت من تالدنونت (قرية بإقليم طاطا) فكدا أوربعين لمراكش وانا دري صغير، خدمت مع واحد السيد من لبلاد فالسمارين، كنا كانبيعو غير الحمص بوحدو". الفول، الحمص، إيوا والزريعة فينا هي؟ صاحب محل فواكه جافة معروف بالمدينة العتيقة وسط الدار البيضاء يملك الجواب: "كان نوع واحد ديال الزريعة، طويلة ومشرطة كيسميوها "البباغيو"، كانو ليهود هما اللي كايبيعوها فالبحيرة (حي بالدار البيضاء) وهوما لي كايكلوها". كانت "البباغيو" تباع أيضا بباب الملاح بمدينة الرباط ومعها نوع آخر من الزريعة تسمى "القاصحة" أو "زريعة الحلوف" حسب الحاج إيدار. "من بعد مراكش، جيت لرباط تحديدا السويقة فبداية الخمسينات، وبدا الكاوكاو كيبان، كنا كنشريوه من تجار يهود كيدخلوه من دولة أنكَولا". يضيف الشيخ الثمانيني. تنوع إذن عرض الطاطويين وانضافت إليه منتجات أخرى أثثت قفة السعف الى جانب الفول الذي تراجع ليترك مكانه لقادم جديد اسمه الحمص. كيفاش؟
أطنان وأطنان من الحمص كانت تقلى وتوزع على الطاطويين اللذين ينتشرون بين أزقة المدينة، يحملون القفاف متوجهين الى ساحات "الحلاقي"، دور السينما، الحانات و الأسواق الأسبوعية. الحاج ايدار يشرح لنيشان أن "الحصادة" كانوا الزبون الأول للطاطويين. "كا يحصدو الناس بيديهم الله إحسن لعوان النهار ومطال، وكا يتقضاو كيلو، جوج كيلو دلحمص للحصّاد". الحاج محمد الذي يحضر "الكٌاميلة" داخل محل "الزريعة" المملوك لأحد أصهاره بحي شماعو (مدينة سلا) يعطي سببا آخر للإقبال على استهلاك الحمص آواخر ستينيات القرن الماضي: "بغيتي الصراحة المغاربة كانو ضعاف وفقراء، والحمص رخيص وكيشبع" هكذا يشرح الحاج محمد الذي يبلغ من العمر 62 سنة، "الطفرة الحمصية" وهو يحرص على تحضير "الكاميلة" بطقوس خاصة لا يعرف سرها إلا الراسخون في "تكَلايت".
من "الكٌفة" الى الحانوت
يغسل الحاج محمد الصحن بالماء الدافئ، لأن الماء البارد هو السبب الرئيسي في حرقة المعدة إذا ما بقي في الصحون حسب تفسيره، يبتسم مشيرا إلى سخان الماء: "فين كان شي ما سخون ولا دوش ولا طواليت فمحالات الزريعة". وفين كانو المحالات أصلا؟ يحكي الحاج محمد أنه رافق والده الى وجدة سنة 1967، كان يكفي أن تقول لسائق الطاكسي "حانوت باعلي أهل جامع" حتى يتجه بك رأسا صوب الكّلاي الوحيد بالعاصمة الشرقية. "لم يكن الحانوت سوى أمتار ضيقة، كانت هي فضاء اللقاء بالنسبة لكافة أبناء أديس (قرية تبعد 9 كلم عن طاطا المدينة). الحانوت لم يكن موصولا لا بالماء ولا الكهرباء، كان المطبخ والمرقد ومكان التصبين و "الكّليان" الجماعي كذلك، "لازلت أتذكر لون الحائط الأبيض الذي اسْوَدَّ بفعل لهب الشموع التي كانوا يبددون بها ظلمة لياليهم الحالكة.."
هكذا كتب أحد أئمة مسجد قرية في طاطا وهو يصف أحد محلات "الزريعة" أواسط ستينيات القرن الماضي في رسالة موجهة الى صديق له بإحدى المدارس العتيقة. المحلات التي كانت تعد على رؤوس الأصابع داخل المدن الكبرى والتي لم تكن إلا نقطة انطلاق "كروسات" الزريعة في مرحلة مابعد "الكٌفة" ما لبثت أن انتشرت كالفطر على امتداد خارطة المغرب. قطع "الكَلاية" مع حياة الترحال، وقرروا أن يستقروا، داعين الزبون إلى متاجرهم بدل أن يبحثوا عنه في زحمة الأسواق وبين قنينات "البيرة" في ليالي الخمارات كما كانوا يفعلون في السابق. "درنا كونطوار ديال العود، وعرمنا عليه الزريعة، الحمص، الخروب، الخوخ، النبكّ.. نقلنا من العطارة نفس الحطة ونفس الديكور تقريبا" يشرح محمد أوفقير الشاب المجاز في الأدب العربي وصاحب محل للزريعة بشارع العنق (الدار البيضاء). السلع الموضوعة على "الكونطوار" أحيط بها "كَرياج" (سياج معدني) أواسط السبعينيات.
العشاقة والغلاقة
"السلعة كانت فالمتناول قدام الكليان باش إيدوق، حطينا كاوكوات زعما للعشاقة ساعة كثرو الغلاقة" يعلق الحاج محمد باسما على سؤال هسبريس حول أسباب نزول "الكرياج" الذي لم يعمر طويلا حتى وضعت مكانه واجهات زجاجية مزينة بالألمنيوم، والسبب، حسب المستجوب، في تغيير الديكور تلاميذ المدارس الابتدائية. "كنت فزنقة كلميمة بدرب الطليان خدام مع الوالد، كيتعرمو وليدات المدرسة قدام الكونطوار، واحد منهم كيجبد تيو حمر بالتخبية وكايخشيه فالكرياج ديال الحمص اللي كايهبط نيشان لشْكارْط الدري بحال الى حليتي شي روبيني" هكذا يشرح محمد الطاهري السبب الرئيسي الذي دفعهم الى الخروج بحبوبهم المقلية من عصر السياج الى عصر الزجاج. الحاج محمد لا ينكر هذا المعطى، لكنه يؤكد أن التغيير جاء لأسباب جمالية بحثه: "شريت محال فبلاس بيتري عام 1982، الناس ديك الساعة نقيين وإداريين، درت الفيترينات والكونتربلاكي وإنارة مزيانة وبداو مسؤولين كبار كيتقضاو عندي". توحد ديكور "الكلاية" وأضافوا الى عروضهم أنواع عديدة من الحلويات والبسكويت والمثلجات والمشروبات وخدمات الهاتف والديطاي حتى هو.
الزريعة طاطاوية
على بعد كيلومترات من مدينة مكناس وبالتحديد بمدينة بوفكران وقف سيد أحمد الزاوي الذي كان ينظم حملة طبية أمام شاب بملامح صحراوية يقف وسط رفوف وضعت عليها أكياس من الفواكه الجافة، سأل سيد أحمد التاجر الشاب بلكنة صحراوية لا لبس فيها: "نْتا مْنَيْ لَخُوتْ؟" فأجابه "أنا من طاطا" فرد سيد أحمد أن "مول الزريعة" الموجود قرب مقر دراسته بالرباط من طاطا وكذلك الشأن بالنسبة للكَلاي الموجود غير بعيد عن مقر سكناه بشارع بوكراع في مدينة العيون. "كيما لفاست فود ابتاكروه المريكان، حنا خويا ابتاكرنا الزريعة" يعلق أحد الشباب القادم حديثا الى الحرفة بعد مسار دراسي مليء بالتعثرات. الشاب الذي يقدم نفسه بالقادم قسرا إلى عالم الزريعة لأنه "ما زططش فقرايتو" لا يتوقف عن إبداء ملاحظاته الساخرة في حديثه مع هسبريس"بغيت غي نعرف هاد الطاطوي الأول لي دار الزريعة وتبعناه، علاش ما يديرش دهايبي مثلا؟".
ذهب أسود
ولكن الزريعة راها ذهب أسود. هكذا يصف الحاج محمد حرفته ويقول أن طاطا كانت منطقة معزولة تعاني كل أنواع الفاقة والخصاص وأن تمر النخيل ومحصول الواحات أضحى، بفعل الجفاف، موردا لا يسد رمق الفقراء اللذين كانوا يقطنون سفوح باني. نفس الكلام يؤكده رئيس إحدى الجمعيات التنموية بالإقليم بالقول أن أطفالا يذهبون إلى المدارس ونساء يزرن المستشفيات بفضل "السنتيمات الصفراء التي يتفضل بها سكان المدن على أناس أبانوا عن قدرة عالية في الاعتماد على الذات دون منة من أحد"، نفس الفاعل المدني لا يخفي أمنيته في توجيه شباب المدينة نحو أوراش محلية "فالسياحة الايكولوجية و الاقتصاد التضامني و تراث الواحة مدخل لتنمية حقيقية لا يستفيد منها سوى الأجانب اللذين بدؤوا اكتساح المنطقة.." حسب بيان صادر عن جمعيته.
تبر الكرامة
لم تحظى الحرفة ببحث أنتروبولوجي أو دراسة اقتصادية وافية تبين بشكل علمي أثار المهنة، المبتكرة من طرف سكان طاطا، على الواقع السوسيوقتصادي لمنطقة الجنوب الشرقي، غير أن المستجوبين يجمعون على أن حرفتهم تعد المورد الرئيس لحاجيات من تُرِك تحت سفوح جبل باني و بين ظلال النخيل بعدما ترك لمصيرهم يجابهون جفاء الطبيعة و جفاء السياسات العمومية.

ليست هناك تعليقات: