هسبريس - طارق العاطفي
الأحد 11 غشت 2013 - 12:00
المدينة
الممتدة على مساحة لا تتعدّى الـ12 من الكيلومترات المربّعة، والمحتضنة
لقرابة الـ80 ألفا من القاطنين بها وفقا لإحصاء العام 2011، تفتح ذراعيها
كل صباح لاستقبال ما ينيف عن الـ50 ألفا من النشطين المستقرين بالجوار
والمتعاطين لمهن مختلفة.. أزيد من نصفهم إناث يلجن إلى ما وراء السياج
المزدوج المحيط بالمدينة بحثا عن لقمة العيش.
نهاية الأسبوع
الماضي أقدمت مشتغلات بالتهريب على شلّ دينامية المرور بمعبر بني أنصار
الحدوديّ الرابط بمليليّة، وذلك عقب تدخّل الأمن الإسباني لمنعهنّ من
نشاطهنّ بداعي "تخطّي الفترة الصباحية التي يُسمح فيها بتمرير السلع"..
إلاّ أنّ الغاضبات لم يتوانَين عن رفع عبارتهنّ الشهيرة "أرزَاقُنَا أو
الموت" حتَى كان لهنّ مَا أردن.
النساء الـ "بغلاَت"
تستفيق
ربيعة كلّ يوم عند حلول الساعة الرابعة صباحا، تغادر مسكنَها بحي ترقَاع،
شمال مدينة النّاظور، لتلتحق بمعبر "بَارْيُو تْشِينُو" الرابط بين بني
أنصار ومليليَّة.. فالسيدة التي جاوز عمرها الأربعين بسنة واحدة تُعيل
أسرة من 3 أبناء.. "كَان زوجِي يشتغل في نقل السلع المهرّبة من مليليّة،
وحين فارق الحياة، بعد حادث سير، لم أجد من حلّ لإعالة نفسي وأبنائي سوى
تعويضه في ما كان يقوم به" تقول ربيعة لـ" هسبريس".
رحلة ربيعة
من مدَار حي ترقاع الطرقي، على الطريق المثنّاة الرابطة بين الناظور وبني
أنصار، صوب معبر "بَاريُو تْشِينُو"، تستغرق قرابة الـ10 دقائق.. وتدفع
مقابلها 5 دراهم لسائق سيارة الأجرة الذي ينقلها بمعيّة 5 ركّاب آخرين..
لتجد ربيعة نفسها، وسط أمواج بشريّة لحمّالين وحمّالات ينتظرون "وسطَاء
مهرّبين" راغبين في استخدام مجموعات لإخراج أنواع مختلفة من السلع.
ربيعة
واحدة من النساء الـ12.000، وفقا لتقديرات الإسبان، اللواتِي يحملن لقب
"النساء البغلات" بمعبر "بَاريُو تْشِينُو"، وهنّ إناث ينتمين لمختلف
الفئات العمريّة ومشتغلات في حمل حزمات السلع التي قد تصل كتلة الواحدة
منها إلى 80 كيلُوغراما.
معبر "بَاريُو تشِينُو"، أو معبر الحيّ
الصينيّ بمقتضَى الترجمة إلى العربيّة، كان محطّ تفاهم بين المسؤولين
المليليّين، من جهة، ونظرائهم بالنّاظور، من جهة أخرى، كي يغدو حكرا على
ممارسي "التهريب المعيشيّ" صباحا.. "الأداء هنا يتمّ باحتساب عدد القطع
التي يتمّ تمريرها من الجانب الإسبانيّ إلى نظيره المغربي من داخل المعبر
ذَاته، ولاَ علاقة لنَا بالتفاهمات التي تجمع المهربين بعناصر الأمن
والجمارك.. ما ننتظر إلاّ إشارة التحرّك التي يعطيها مشغّلنَا كي نتحرّك
بحمولة نتلقى مقابلها ما بين الـ3 والـ30 درهما.. حسب الحجم" تقول ربيعة
قبل أن تزيد: "كَنْتْرْزْقْ الله ما بين عنف وإهَانَات الساهرين على هذا
المعبر لـ5 أيّام كلّ أسبوع.. وفي أحسن الحالات أفلح في استجماع 150 درهما
في اليوم كي أعيل عائلتي وأفي بالتزامات الكراء والماء والكهرباء.. هذَا
مَا كَانْ".
ويبقى اسم صفية عزيزي، ابنة صفرو التي فارقت الحياة
جراء ازدحام بمعبر "بَاريُو تشِينُو" شهر نونبر من العام 2008، عالقا
بأذهان كلّ الـ "حمّالاَت" المشتغلات بالمعبر نفسه.. حتّى أصبحت "وَاشْ
بَاغِيِينْ تْقْتْلُونَا بحَال صفيّة" عبارة تردّدها ذات النساء عند
تواجدهنّ وسط الزحام الذي يطال "باريُو" في فترات الذروة.
صفيّة
المجازة في الأدب العربيّ كَانت قد فارقت الحياة عن عمر يناهز الـ41، قبل
5 سنين من الآن، بعد أن دهستها أقدام مئات المزدحمين الذين كَانُوا
ينتظرون فتح باب المعبر أمامهم.. وحينها تدخلت عناصر الحرس المدنيّ
الإسباني، مجبرة على اللجوء إلى إطلاق أعيرة نارية في الهواء، من أجل
تشتيت المتهاوين على بدن صفيَة قبل استدعاء مسعفين لم يفلحوا في إنقاذ
روحها.
الواقعة مازالت حاضرة وسط "قدمَاء الحرفة"، وعنها تقول
فطّومَة لـ" هسبريس": "في كلّ صباح أغادر مسكني للالتحاق بالمعبر أتذكّر
ما طَال صفيّة.. كَانْتْ قَارْيَة ومَا عْنْدْهَا زْهْر.. مّاتت دون أن
يفلح أيّ ممّن حضروا الفاجعة وقتها في نسيان ما وقع إلى حين الآن.. ومازال
الخوف ينال من نسَاء الطْرَابَانْدُو اللواتي يهبن أن يتعرّضن للمصير ذاته
مع استمرارهنّ في إخراج السلع لفائدة المهرّبين.. ولكن ما باليد حيلة".
الاستغلال الممنهج
محمّد
بوجيدة، الأمين الجهوي للاتحاد المغربي للشغل بالنّاظور وعضو المجلس
الاقتصادي والاجتماعي والبيئيّ، يورد أنّ علاقة مدبري ثغر مليليّة بمحيطه
تبقى مبنيَّة على الاستغلال للترويج الاقتصاديّ، بعيدا عن أي مراعاة لعامل
الإنسانية الذي يعدّ مفصليا ولا يمكن الحياد عنه.. "إسبان مليلية يسمحون
للجميع بالمرور نحو الثغر صباحا، وابتداء من بعد الزوال يشرعون في تشديد
الإجراءات رغما عن كون الاتفاقية المعمول بها بين الطرفين المغربي
والإسباني تجعل من أي حامل لبطاقة تعريف وطنية، ذات ترقيم دال على إقليم
النّاظور، مخولا له الولوج إلى المدينة.. وهذا التدبير المرصود مردّه إلى
انتهاء فترة المعاملات مع المتاجر الكبرى للسلع التي تغلق غالبيتها عند
حلول الفترة الزواليَة".
ويثير المسؤول النقابيّ ذاته ما أضحى
يعيشه "العمّال الحدُوديون" وسط تحرشات المسؤولين المليليّين، ويتعلق
الأمر بفئة من المغاربة يشتغلون داخل الثغر، بمهن مختلفة وفي وضعيَّة
قانونيَّة، دون أن يقطنوا بين سكانه.. إذ غدا هؤلاء مطالبين بسلك مسطرة
خاصّة بهم للحصول على تصاريح العمل، خاضعين لتعرفة مصاريف مرتفعة لقاء
أذونات عمل من عام واحد تكون في اسم المشغّل.. "كلّ هذا يتمّ وسط صمت تامّ
للمسؤولين الحكُوميّين المغاربة الذين يتردّدون في الدفاع عن مصالح مواطني
البلد أينما كانوا.. والأمر هنا لا يقترن بحالات فرديَة وإنّما بمغاربة
يتجاوز عددهم الـ7000 ومن بينهم كمّ كبير من النساء المغلوبات على
أمورهنّ" يزيد بوجيدة.
مافيات الدعارة بالثغر المحتل أضحت، في ظل
الأزمة الإسبانية التي امتدّت إلى مليليَة، ناشطة أكثر من أي وقت مضى وسط
حَانَات الثغر.. مستغلات في ذلك فتيات يعبرن صوب المدينة من أجل مردود
ماليّ ينسبنه، وسط معارفهنّ، إلى مهن وهميَة بعيدة عن الحقيقة.. هنَا
مجالسة الزبائن يؤدّي عنها مدبّر الحانة للأنثَى بتعرفة تقترن بنوع
المشروب الذي تتناوله الأنثَى المستضافة على مائدة الزبون.. أمّا "خدمة
الجنس"، وهي التي تقدّم للراغبين فيها بحيز مكانيّ خفي، أضحت تتوفر عليه
كل حانة بمليليَة، فتعرفتها تتأرجح ما بين الـ30 والـ50 أورو، تُسلّم عدّا
ونقدَا لمدبّر المرفق بشكل مسبق.
"كلّ الفتيات هنَا تُسحب منهنّ
جوازَات سفرهنّ عِند الولوج إلى البَارْ أو الوِيسْكِيرْيَا" تقول إلهَام
لـ" هسبريس" قبل أن تَزِيد: "معاودة تسلم البَّاسْبُور تتمّ حين الرغبَة
في المغَادرة وبعد استكمَال المحاسبة مع ممثل لإدارة المحلّ.. هذَا إجرَاء
غير قَانوني بالمرّة، تماما كنشاط الدعارة التي تكفله غالبيَّة الحانات
بمليلية، ولكن ما باليد حيلة.. تخضع الفتيات لهذه المزاجية اتقاء
للتضييقات والانتقَامات التي قد تطالها، على أيدي عنَاصر هذه المافيات،
بمنع الولوج أو الاعتداءات إذا ما غيّرت وجهتها صوب أماكن أخرى".
إلهام،
وهي الشابة التي مازالت في عقدها العشرين، سبق لها أن تعاطت للتهريب زيادة
على اشتغالها خادمة ببيوت إسبان بمليليَة.. وضمن تصريحهَا لـ" هسبريس"
تقول: "لم أقوَ على الاستمرار ضمن ما يستلزمه تهريب السلع من قوة بدنية
وسكوت على المهانة بالمعابر الحدوديَة.. كمّا لاقيت استغلالا جنسيا لدَى
كلّ من رغبوا في اشتغالي كخادمَة.. وكثيرات هنّ في مثل حالتِي بعدما
دُفعنَ لتقديم خدمات المجالسَة والجنس.. فأنَا، مثلا، لدَيَّ أسرة من 4
أفراد أعيلها بالكامل وسط مدينة قصيّة عن مناطق الشمَال، لذلك أدّعي
أمامها استمراري كخادمة بيُوت لأبرّر حوالات الـ400 أورو التي أرسلها عند
متمّ كل شهر".
ملائكة رحمة "سرّيَّة"
مريم،
الشابة ذات الـ28 ربيعا، دأبت على ولوج مليليَّة منذ 6 سنوات خلت.. تقول
وهي تكاشف " هسبريس" "كُنت أشتغل ممرِّضة بأحدَ المراكز الصحيّة التابعة
لمنظّمة الهلال الأحمر المغربي، وعام 2007 تمكّنت من استخراج جواز سفر
سلّمته لي مصالح عمالة إقليم النّاظور بعد معاناة طالتنِي في تحضير
الوثائق اللازمة لنيل هذه الوثيقة.. فأنا لم أكُن مقيمة بالمدينة، لكنّ
مساندة بعض من معارفِي أفلحت في تسوية الأمور وتمكيني من جواز السفر الذي
يتيح لي ولوج مدينة مليليَّة دون تأشيرة سفر".
مريم تشتغل الآن
في رعاية سيدة مسنّة داخل الثغر الرازح للسيادة الإسبانيَة، وتتلقَّى
مقابل ذلك مبلغا ماليا شهريا يصل إلى 550 أُورُو.. ورغما عن إقرارها بأنّ
ما تناله يبقَى متدنيا عمّا يمكن أن يتمّ تقاضيه نظير خدمتها، وفقا
للمعايير المعمول بها وسط مليليَة، إلاّ أنّ مريم تراعِي كونها مشتغلة
بشكل سريّ، وتقول عن ذلك: "أشتغل دون تصريح وسط مسكن أسرة اتفقت معها على
رعاية سيدة مصابة بشلل نصفيّ، إذ أسهر على مواعيد تناولها للدواء،
وأمكّنها من حركَات ترويض لـ3 مرات في الأسبوع، زيادة على مختلف
مستلزمَاتها اليوميَّة من مأكل ومشرب، كما أقوم باصطحابها في جولات تتردّد
4 مرّات كلّ شهر.. فهذه ثاني امرأة تعاني صعوبات صحية أرعاها بمليليَة بعد
أولى فارقت الحياة، ورغم تدني أجري وفقا للمعايير المحلية هنَا إلاّ أنِّي
لا أشتغل إلاّ خلال النهار، حين يفرض دوام العمل الإداري بقاء مرعيَّتِي
وحيدَة، كما أستفيد من علاوات عند مقدم الأعياد، وهدايا غالبيتها من
الملابس والأحذية".
وضعيَّة مريم التي تشتغل "ممرضة خاصَة"
بمليليَّة، خارج القوانين المنظّمة لهذا النشاط بمليليَة، تشاركها إياها
عدد من النسوة القادمات عبر "معابر بني أنصار"، وذلك في غياب للإحصائيات
الرسميَة الفالحَة في حصر كمّ الممارسات لهذه المهنة المتستّرة وراء
الجدران.. "هناك المئات من المغربيات اللواتي يرعين إسبانا متعرضان لأزمات
صحيَّة هنا، وغالبيتهنّ اشتغلن كخادمات بالبيوت قبل أن يتمَّ تناقل
مهاراتهنّ في ملازمة العجائز، وبناء على ذلك أضحى الإقبال على خدماتهنّ في
ارتفاع.. أمّا أجورهنّ فقد تصل إلى 1000 أورو، لمن هنّ ضمن ذات حالتِي،
شريطة أن يلازمن البيت طيلة اليوم على مدار الأشهر والسنين" تقول مريم لـ"
هسبريس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق