هسبريس - هاجر بوخرواعة
الثلاثاء 13 غشت 2013 - 14:00
على
بعد 15 كيلمتر من العاصمة الرباط تقع مدينة تمارة، التي كانت إلى حدود
الثمانينات من القرن الماضي جماعة قروية، تضم أجود الأراضي الفلاحية، قبل
أن يحولها الزحف العمراني إلى جنة عقارية يتهافت عليها بارونات ومافيات
العقار من كل حدب وصوب، لتصبح المدينة " مرقدا لصغار الموظفين يعودون إليه
للنوم، ما إن يسدل الليل خيوطه بعد قضاء يوم من العمل في العاصمة " يقول
أحد السكان.
تسارع المدينة إلى الاصطفاف في خندق المدن الحديثة ،
وطي صفحة البداوة، عجلة البناء لا تتوقف، عمارات وإقامات سكنية حديثة،
حركة دؤوب في كل مكان، إلا في مكان واحد: "دوار جمايكا"حيث تتوقف عقارب
الزمن عند حي صفيحي يشكل البؤرة الأكثر سوادا في مدينة تمارة.
واقعة السقاية
"جمايكا"،
أو دوار بن ناصر الجنوبي كما هو مسجل في التقسيم الإداري، تجمع صفيحي يضم
بين طياته تناقضات ومفارقات عجيبة لم يسلم منها حتى اسم الدوار ذاته،
فــ"جمايكا" اسم يثير الكثير من التساؤلات ، ويطرح فرضيات عديدة لقصص قد
تكون وراء هذه التسمية، منها من يرجح أن" جمايكا" وهو الاسم الذي اشتهر به
الدوار على مدى 30 سنة ،هو اسم راج في صفوف الساكنة بعد الانتشار الواسع
لموسيقى" الريغي"، و"الروك" القادمة من دولة جمايكا وتعاطي شباب الدوار
لموجات "الهيبي" والشعر الطويل في ثمانينات القرن الماضي.
أول من
ظهرت معه هذه الموجة في الدوار هو "رشيد الجمايكا"، شاب من أبناء الدوار
القدامى، كان يرتدي ملابس شبيهة بثياب المغني "بوب مارلي" لكن هذا الاسم
لم يصبح معروفا إلا في بداية التسعينات كما يحكي توفيق ظريف، شاب في عقده
الثلاثين ، واحد من شباب جمايكا ، الذين التقتهم "هسبريس"، وقبل مرافقتنا
منذ بداية زيارتنا لـ "الدوار"، نظرا لخطورة الوضع الأمني هناك، فـالحي
الصفيحي محمية داخلية يحكمها سكانها بقانون خاص بهم وممنوع على الغرباء
دخولها.
يتذكر توفيق "واقعة السقاية" جيدا، أو اليوم الذي ستنسج
قصة "جمايكا" التي انطلقت مزحة في البداية، قبل أن تصير اسما لدوار يشكل
النقطة السوداء لدى الأمن والساكنة في تمارة. يروي هذا الشاب الذي يحاول
جاهدا إسقاط صفة "مشتبه به أول " التي ألصقت بالشباب هناك خاصة مع ارتباط
بالمكان في ذهنية العامة بترويج المخدرات بيعا واستهلاكا وانتشار الجريمة
و غيابا الأمن (يروي) كيف أن إحدى الفتيات كانت منهمكة في نقل المياه من
السقاية فتحرش بها شاب من الدوار لتثور في وجهه أمام أبناء الحي قائلة له
"سير بحالك أولد جمايكا" وهكذا انطلقت الحكاية بمزحة ما لبثت أن انتشرت
على نطاق واسع، خاصة بعد إطلاع الساكنة على التقارب في مستوى العيش بين
دولة جمايكا والدوار حيث الفقر والجريمة وجهان لمأساة واحدة.
"البراني" هو السبب..
بنبرة
حادة وواثقة يلفها نوع من الحسرة على ماضي الدوار الذي كان بنظره أفضل حال
مما هو علية الآن :"كنا تلبسوا مزيان، ولد جمايكا السبرديلة المخيرة كان
تيلبسها والسروال الغالي هوَ مولاه ... ماشي بحال ولاد دابا "، يحكي عبد
الله 30سنة، وهو الذي قضى طفولته يلعب بين أزقة جمايكا التي لم تكن بهذا
الضيق كما هي عليه الآن.
عبد الله، يرى أن حال الدوار كان أفضل
قبل مجيئ "البراني"، ويقصد بـ"البراني" أول موجات الهجرة القروية آوائل
الثمانينات، مهاجرون قادمون أساسا من مناطق الرحامنة ودكالة هربا من ويلات
الجفاف التي عرفها المغرب أواسط الثمانينات ومطلع التسعينات. يستطرد عبد
الله كلامه عن مآسي الدوار التي تفاقمت في اعتقاده بمجرد وصول هؤلاء،
مشيرا بأصبعه إلى" براريك" تبدو من الوهلة الأولى أقرب إلى "نوالة" أو
"عشة" منه إلى منزل، فهي عبارة عن كومة من القصدير اتخذ أصحابها من
المتلاشيات سقفا يحميهم من صقيع البرد في الشتاء ولهيب أشعة الشمس في
الصيف. وضعت بشكل متراص ، لا تتجاوز مساحتها الثلاثة أمتار، وتبعد عن
الأرض ببضع سنتمترات فقط ، لابد من الانحناء للولوج إليها، يبقى منفذها
الوحيد إلى الخارج فتحة أمامية، والتي اتخدت لها النسوة كباب يقيهم أنظار
المارة، قطعة قماش مستعمل غالبا ما يكون من ملابس بالية استغنى عنها أصحاب
البيت.
في "جمايكا "كل شيء صالح للاستعمال" حتى الأثاث الذي لم
يعد صالحا داخل البيت ، يصلح لتثبيت السقف القصديري تحسبا لرياح فصل
الشتاء العاتية.
"ولدي هو ولدك، وولدك هو ولدي، وباب الدار تبات
مفتوحة ، وأختك دوز ما يهدر معاها حد، كانو العائلات معروفين وكانو قلال"
هكذا يتابع توفيق الحديث عن دواره قبل قدوم الغريب الذي يتصف به أيضا
الموظف المعدم القادم من الأحياء الشعبية في العاصمة الرباط كـحي التقدم،
جي 5 ودوار الكورة ودوار الكرعة بحثا عن سكن يقيهم من غلاء أسعار الكراء و
يخفف عنهم شيئا من ثقل المصاريف دون نسيان من أتى طمعا في شقة أو بقعة
أرضية يمكن أن تذرها "البراكة" الحالية.
الطرد مقابل الزواج
"جمايكا،
هي السبب في عدم زواجي للآن، ولأتزوج علي أن أطرد أحد أفراد عائلتي خارجا
" ، بوجه لم يخلو من ابتسامة يحاول أن يخفي من خلالها خجله ، قاطعنا محمد
32 سنة، ، من مواليد دوار جمايكا،، هذا الشاب الذي يشتغل سائقا لشاحنة
تجارية لا يخفي أن دوار جمايكا حيث يقطن يشكل عائقا، أمام أي مشروع زواج
يمكن أن يخطط له في المستقبل.
محمد يقر أن حالته المادية مريحة
مقارنة مع باقي شباب الدوار ،لكنها لا تسمح له بتوفير سكن منفصل عن
العائلة، وعن ما إذا كان بمقدوره السكن في بيت واحد رفقة العائلة، كحال
العديد من أبناء الدوار الذين لا تسعفهم الظروف المادية لتوفير سكن خاص
بهم بعد الزواج، أخبرنا محمد، أن الأمر في حالته يبقى صعبا خاصة وأن
البراكة حيت يقطن وعائلته لا تتعدى 13متر مربع في العرض والطول، "وإن أردت
الزواج فيتوجب علي طرد أحد من أفراد عائلتي خارجا" وهو أمر لن يقبله
وبالتالي فإن أي فكرة زواج غير واردة مادام يقطن في الدوار، فـ"جمايكا"
تحول إلى وصمة عار في حياة محمد، الذي لا يطيق أن يُنعت بـ" ولد جمايكا".
لا
ينكر الشاب أنه عادة ما يتجنب ذكر عنوان مقر سكنه أمام معارفه وزملائه في
العمل اتقاء لأي "نظرة تحقير قد تتحول إلى احتراس وحذر أثناء التعامل معه".
فاطمة، المسار المختلف
غير
بعيد عن محمد التقينا فاطمة الزهراء، طالبة جامعية بشعبة الاقتصاد ،
وخلافا لمحمد لا تتوانى فاطمة الزهراء عن الدفاع عن سمعة أبناء "جمايكا"،
ولا تجد أي حرج في إطلاع زملائها في الكلية على عنوانها. الطالبة لا تنفي،
أن ظروف العيش في الدوار تبقى صعبة، خاصة وأن الأمر يتعلق بتجمع صفيحي
مسجل "خطر" في الخريطة الأمنية للمدينة.
شروط التمدرس منعدمة في
مناخ تسود فيه الجريمة و تنتشر فيه المخدرات لكن فاطمة، نموذج شباب
تحدى"البراكة "، ونجح في شق الطريق نحو مستقبل مشرق بعيدا عن المخدارت
والإجرام، فاطمة الزهراء لم تترد في سرد أمثلة لشباب خرجوا من رحم أزقة
"جمايكا" الضيقة إلى مجالات أرحب، مفندين بذلك كل الاتهامات بشأنهم.
لا حياة لمن تنادي..
عمارات
متناسقة الطول والطلاء، ممتدة على طول شارع عريض، محلات تجارية مكتظة
ومقاهي لا تخلو من زبائن على طول الرصيف، لحد الآن يبدو المشهد مألوفا،
لكن سرعان ما يسقط هذا المشهد بعين الزائر في فضاء من المتلاشيات ، يشبه
منظره من الأعلى سوقا أسبوعيا في إحدى القرى المنسية وراء جبال الأطلس.
فلا شيء يدل على أن المكان يدب بالحياة ،إلا أطفال يلعبون بمياه المجاري
المحاذية للبراكة، غير مكثرتين بالرائحة الكريهة التي تنبعث منها، وكأنهم
اعتادوا عليها لدرجة تعطلت معها حاسة الشم لديهم، يرتدون ثياب رثة ، نالت
منها الأوساخ حتى فقدت لونها الأصلي وصارت باهتة، صورة تُختزل فيها كل صور
الفقر والبؤس التي وجدت في الدوار أرضية خصبة للنمو والانتشار.
"دوار
جمايكا يغرق في الواد الحار"هكذا اختار سكان الحي الصفيحي التعبير عن
غضبهم من تردي خدمات الصرف الصحي بالدوار، بلافتات وشعارات من هذه الطينة،
خرج سكان جمايكا مرات ومرات في مسيرات احتجاجية نحو مقر العمالة و
البلدية، مطالبين السلطات بإنقاذهم من ويلات نهر من المياه العادمة يغرق
براريكهم كلما امتلأت الحفر التي عوض بها السكان قنوات الصرف الصحي
بنفايات مراحيضهم، وهو المشهد الذي اعتاد السكان على حدوثه، مما يزيد من
محنة هؤلاء. مراسلاتهم للسلطات لا تنتهي لكن "لا حياة لمن تنادي.." يقول
مرافقنا.
RC + 2
جولة واحدة
في الدوارلا تكفي الزائر لمعرفة منافذ الدوار إلى الخارج فأزقته التي لا
تكاد تميزها، نظرا لتشابهها وضيق مساحتها والتي لا تتجاوز المتر الواحد
عرضا مما جعل قاطني الدوار غير قادرين على الولوج إلى براريكهم إلا عبر
فتحات جانبية ،فأغلب هؤلاء يبحثون عن أي بقعة فارغة يزحفون عليها للبناء،
قصد توفير مساحة إضافية لبراريكهم التي لم تعد تسع أفراد الأسرة المتزايد.
في
جمايكا وجد السكان لمشاكلهم حلولا ، فالأسر التي استنفذت جميع المساحة
الخالية حولها، شرعت تتوسع في اتجاه الأعلى، مشيدة بذلك "براكة فوق براكة"
أو كما يطلق عليها أبناء الدوار "البراكة 2 إيطاج"، وهي براكة بطابقين أو
ثلاث، " حيث تصبح حلا عمليا بالنسبة للعديد من العائلات عندما يتزوج
أبناءها، عوض البحث عن مسكن آخر قد لا يمكن توفيره في كثير من الحالات،
يكتفي هؤلاء بهذا الحل، ريثما يأتي الفرج.
الدعارة أو أيسر الطرق
خلال
حديثنا مع شباب "جمايكا"عن مشاكل الدوار التي لا تنتهي ، فاجئنا توفيق
الذي رافقنا طيلة تواجدنا بالدوار ، بقصص عن فتيات دفعهن الفقر والحاجة
إلى البحث عن سبل للكسب السريع و عن تحولن بين ليلة وضحاها من تلميذات
انقطعن عن الدراسة، بسبب ضيق ذات اليد، إلى امتهان أقدم مهنة في التاريخ
لسد رمق العيش وتغطية تكاليف المعيشة لأسرهن المعوزة.وعن مدى انتشار هذه
الظاهرة سألنا توفيق ، فكان جوابه أن "هذه الظاهرة تبقى محصورة في"
البراني" !
توفيق يستحضر بآسى بالغ يوم استفاق سكان الدوار على
وقع فاجعة لم يكن لها مثيل في الدوار من قبل، أب يغتصب ابنتيه القاصرتين
خلال نومهما داخل براكتهما ، مستغلا غياب والدتهما في العمل، كما يتذكر
جيدا يوم ألقت عناصر الشرطة القبض عليه أمام أنظار الساكنة.توفيق لا ينفي
وجود حالات اغتصاب أخرى، الأخ لأخته أو الأب لأبنته، غير أن هذه الأخيرة
يتستر عليها الجميع "الضيق ديال براكة فيه 3 مترو حيث ينام الجميع في غرفة
واحدة يدير العجب" هكذا اختار توفيق أن يلخص كلامه، في إشارة واضحة أن
الازدحام القسري قد يكون سببا مباشرا في انتشار زنا المحارم.
فلاش باك
قبل
أربعين سنة من الآن لم يكن لأي براكة أثر في أرض دوار بن ناصر أو "جمايكا"
حاليا، سنة 1972 كانت عاما مفصليا في تاريخ الدوار، يقول الحاج ظريف واحد
من سكان الوداية وهم المالكون الأصليون للأرض التي أقيم عليها الدوار. أول
براكة ظهرت في جمايكا كانت في نفس السنة، لتتناسل واحدة تلوى الأخرى بسرعة
فائقة زاد من وتيرتها تواطؤ السلطات التي حولت أرض جده ناصر الأكبر من أرض
فلاحية مثمرة إلى أكبر وأخطر تجمع صفيحي في مدينة تمارة.
بين
مطرقة الفقر وسندان البراكة، لا يملك سكان جمايكا إلا انتظار فرج من
السماء مستظلين بظل مطالبهم الملخصة في سكن لائق يحميهم برد الشتاء القارص
وحر الصيف القائظ . مطالب لم تلقى أي استجابة من لدن السلطات خاصة وأنهم
يرفضون تكرار سيناريو دواوير أخرى بالمدينة التي رحل أصحابها إلى مشاريع
للسكن الاقتصادي في إطار برنامج "مدن بدون صفيح"، التي تعد في نظرهم"
إعداما جماعيا " تعرض له هؤلاء من قبل سياسات عمومية و مسؤولين سلموهم
براكة إسمنتية تعويضا عن براكة صفيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق