من
المفترض أن يكون خطباء المساجد أكثر الناس معرفة بأحوال الأمة وشؤونها،
مستقلين عن كل ما يبث إلى الإيديولوجية بصلة
، لكن، من يتأمل واقع المجال
الديني في المغرب، لن يختلف حول التناقضات التي تنخره، إذ بالإضافة إلى
توظيف الدين واستثماره في مجال السياسة بكل حرية، تحول دور خطباء المساجد
داخل المجال الديني إلى مجرد آليات لإعادة إنتاج نفس الخطاب الذي يُرَاد،
إذ كل متأمل في الخٌطب التي غدت تلقى، يقتنع بأنها تعيد الخطاب نفسه الذي
تعرضه بعض وسائل الإعلام الرسمية، خدمة للسياسة القائمة، مع بعض الإضافات
الطفيفة ليس إلا.
أما
بالنسبة إلى خطباء المساجد الذين شكلوا الاستثناء، باختيارهم عدم "تدنيس"
الدين بالسياسة، -وذلك بالاكتفاء بقول الحقائق الدينية الثابتة-، فإن
مصيرهم كان محسوما فيه، ألا وهو الإعفاء من لدن "وزارة الأوقاف والشؤون
الإسلامية"، عبر سلطة المخزن الذي له وسائله الخاصة لصناعة و"طبخ" ذرائع
كثيرة، وتأكيد اتهامات مفبركة، منها الإخلال بالسلوك الأخلاقي، الانتماء
إلى جماعات محظورة، وغيرها من الحسابات الضيقة.
هذه
النتيجة المستخلصة من واقع المجال الديني في المغرب، أحسن نعث وتوصيف قد
يفيد في التعبير عنها، هو المثل الشعبي الذي يفهمه المغاربة بعمق:
"لَعْكَرْ عْلَى الخْنُونَة"، ما دام أنه يتم تغليف قضايا سياسية محضة،
تنطوي على جملة من المتناقضات والأفكار غير البريئة، بالمجال الديني، في
مجتمع اليوم، الموسوم بمجتمع المؤسسات والتخصصات الدقيقة، التي تضع حدودا
تخصصية واضحة، تجعل من السذاجة بمكان محاولات تقديم تبريرات وذرائع
لاستحضار ومناقشة مواضيع سياسية فوق منابر المساجد بلغة سياسية...
إن هذا التسيب والاستخفاف الكبيرين بالدين؛ المتمثلان في تسخير منابر
المساجد الدينية لخدمة أهداف وأجندات سياسية منكشفة، يعد مهزلة، خاصة
بالنسبة إلى بلد يقول إن دينه الرسمي هو الإسلام.
لأنه إذا كان دور الأئمة وخطباء المساجد هو الدعوة لله، وإرشاد الناس في
أمور دينهم، وحثهم على مكارم الأخلاق استنادا إلى الأحوال المعهودة إلى
الأنبياء والصحابة،... فإن أسيادنا خطباء المساجد في المغرب، الذين يعتلون
المنابر، ومكبرات الأصوات أمام أفواههم، والناس تتوافد إليهم أفواجا
أفواجـا وتنصت إليهم تقديسا واحتراما، لا يقومون بهذا الدور على قدر
المسؤولية، حيث يتحفظون عن قول الحقائق الدينية، ومرد ذلك إلى كون ما
يقولون، بتفاصيل التفاصيل، يخضع لطائلة أجهزة الرقابة والوعيد المخزني.
ويبدو هذا الموقف أكثر وضوحا عند التدقيق في المواضيع التي تعالج في خطب
الجمعة، إذ باتت كلها تصب في خدمة القضايا السياسية، حتى أن بعضها أحيانا
يكون شبيها بالربورتاجات الصحفية التي تنقلها القنوات الرسمية. والحال
كذلك، أصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين خطيب مسجد ورجل سياسة! بل وأبعد
من هذا الحد، نشكك في أن خطباء مساجدنا لا يخضعون لدورات تكوينية مستمرة
في مجال السياسة، بهدف أن يعيدوا نفس الخطاب الرسمي، -بوعي أو بلا وعي-.
ولا نستبعد أن ذلك يتم من خلال "برنامج تأهيل الأئمة في إطار خطة ميثاق
العلماء"، الذي تدعو إليه "وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية"، حيث لا يمكن
أن نرجح الأمر إلى الصدفة، فالقاموس، المعجم والمفاهيم التي يستعملها
خطباء المساجد فوق منابر المساجد كلها سياسية محضة!..
والغريب في الأمر، أن خطباء المساجد في المغرب، يندرجون ضمن مؤسسة إمارة
المؤمنين، ورغم ذلك، فإنها ترعى وتسهر –علنًا- على مهرجان موازين أكثر من
مجال الدين! ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الوزارة التي لا تناقش في
أي أمر، حيث هي التي من تتكلف بتعيينهم وعزلهم... ولا يخفى على أحد أنها
توزع عليهم حتى مواضيع خطبهم، التي غالبا ما نجدها تلقى في المساجد كلها،
فيتحدثون عن حوادث السير، التبرع بالدم، الهجرة السرية وعن الانتخابات،...
بلغة الخطاب الديماغوجي المغلف بالدين، مما يسيطر على الأذهان!.
والواقع الغريب هذا، يجعلنا نضع مجموعة من الافتراضات، التي يمكن تلخيصها
في أن سياسة الدولة تمارس الرقابة المحكمة على مجال الدين، بما أنها تحدد
لخطباء المساجد إطارا مغلقا، تجاوزه يعني إعفاؤهم وعزلهم من مهامهم:
لا تحدثوا الناس في أمور دينهم المتعلقة برفض التبرج والعبث (...)، فقد
يؤدي بهم ذلك إلى رفض واستنكار واقعهم المشجع للأجيال الناشئة على هذا
الحال، كما قد يقودهم إلى نقد أمرائهم ومسؤوليهم الذين بدورهم يندرجون ضمن
النموذج الغربي...
لا تحدثوا الناس في أمور الجنة
والنار، ولا تحدثوهم في حقيقة الكذب والفساد... فقد يدركون يوما ما، بعد
استقرار اليقين، أن المسؤولين عليهم أكثر الكاذبين وبدورهم يعيشون في
الفساد، فتكون الثورة التي لا تخمد نيرانها.
لا تحدثوا الناس في حقيقة دينهم، فقد يصبحوا أصحاب رؤى ومواقف حية ضدا على سياستي "التضبيع" و"التطبيع".
على أي حـال.. إذا كانت الجهات الوصية والأطراف المعنية على المجال الديني
في المغرب، تخشى أن ينفك الدين من قبضتها، لأنه الضامن المميز والوحيد
لامتداد شرعيتها، ولذلك تسهر على اصطفاء خطباء المساجد بعناية تامة تستند
إلى تحقيق معمق ودقيق، وليس فقط إلى الشهادة بالعلم وحسن الأخلاق، توجسا
من انتماء أي خطيب مسجد إلى جماعة العدل والإحسان أو السلفية الجهادية أو
انتماءات أخرى محظورة، وذلك لأسباب معروفة، ليس هنا مجال ذكرها، أفلما لا
نعمل على استيراد علماء وأئمة محايدين، من دول أخرى، كما يتم استيراد
مدربي كرة القدم بعشرات الملايين. أفلا يستحق الدين هذا التقدير أم أن كرة
القدم أهـم؟ أفلا يستحق الدين هذا التقدير أم أنه لا يصلح سوى لاستثماره
في المجال السياسي؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق